الجمعة، 5 مارس 2010

رسالة من معلم مصرى إلى وزير التربية ..؟

د.سعيد إسماعيل على 03-03-2010 23:42

معالى وزير التربية والتعليم ..

مقدمه لسيادتكم فوزى عبد الشكور السيد ، مدرس تاريخ بإحدى مدارس مصر الثانوية للبنين ،ومعذرة لعدم تحديدى اسم المدرسة أو المديرية ، لأننى أصارحك بخوفى الشديد من المعاقبة ، لخبرات سابقة مع آخرين نالوا عقابا لأنهم " اشتكوا " لهذه الصحيفة أو تلك ، أو حتى تحدثوا لأوامر سابقة من الوزارة بمنع التحدث إلى وسائل الإعلام إلا بإذن مسبق من المسئولين ، لكن كيف أستأذن من اشكوهم وأبث للناس همومى التى تجيئ من أبوابهم ؟

على أية حال ، فما أتحدث عنه اليوم ليس شكوى " خاصة " بل هى صورة لهموم عامة لا أنفرد بها ، بل هى هموم كثيرين ممن يشاركوننى فى المهنة .

وأحمد الله سيدى أننى كنت من آخر " دفعة " تخرجت من كلية للتربية عينتها الوزارة أيام نظام التكليف ، وكم نشعر بالتعاسة حقا ، عندما رأينا بعد ذلك الوزارة تجئ إلينا بمئات ، وربما ألوف ممن لم يلتحقوا بكليات التربية لتعدهم لممارسة المهنة ،وهذا أشعرنا بجرح شديد ، إذ أنه يكشف عن نظرة وزارة التربية لمهنة التربية ، فإذا كان المهندس لابد أن يُعد فى كلية الهندسة ، وإذا كان الطبيب لابد أن يُعد فى كلية الطب ، والمحامى فى كلية الحقوق وهكذا ، إلا أن مهنة التدريس لم يعد من الضرورى لدى الوزارة المسئولة عن التعليم أن يكون العامل بها قد تم إعداده خصيصا لها ، فأى خريج ، يمكن أن ،و يكفى أن تقَدم إليه بعض برامج التدريب القصيرة فى عدة أيام وتتركون الخريج الذى أنفقت عليه الدولة ألوفا من الجنيهات مدة أربع سنوات..وبالتالى فقد عاد الشعار الشهير عن مهنتنا بأنها مهنة من لا مهنة له.

وقد انتظرنا أن تتحرك نقابتنا للدفاع عن كرامة المهنة ، فنقابة المحامين لا تعطى ترخيصا بمزاولة المحاماة إلا لخريج الحقوق ،وهكذا نقابات الصيادلة والمهندسين والأطباء ، لكننا فقدنا الثقة فى هذه النقابة التى هى أضخم نقابة فى مصر ، إذ يصل أعضاؤها إلى ما هو أكثر من مليون ، لكنها أشبه بحيوان الديناصور ، ضخم الجثة ، قليل الفاعلية . ولأن النقابة المسئولة عنا لا تحافظ على كرامة المهنة ، فلا عجب أن نفتقد نحن قدرا من هذه الكرامة ، فكرامة الفرد جزء لا يتجزأ من كرامة الجماعة المهنية التى ينتمى إليها.

طبعا حالة الموات التى عليهها النقابة ،وعدم وقوفها لمناصرة المعلمين ضد بعض تصرفات السلطة ،وهو نتيجة طبيعية لعشرات السنين لولادة النقابة فى أحضان السلطة السياسية وحرص وزراء سابقين على أن يكون وزير التربية هو نفسه نقيب المعلمين ، الأمر الذىلا مثيل له على الأرض ، مما طبعها على أخلاقيات الطاعة المطلقة للسلطة!

لقد تخرجت منذ أواسط التسعينيات ، ولم يزد مرتبى عن الخمسمائة جنيه ، حيث لم تمكنى ظروفى إلا أن أحصل على 50% من الكادر ، ذلك الذى كان صورة هزلية " بهدلتنا " فترة من الفترات ، من أجل المن علينا بزيادة صورت للرأى العام بأنها مائة فى المائة ، ولو تنبه الناس إلى أن ذلك يكون بالنسبة للمرتب الأساسى ، لأدركوا كم هى قطرة ماء تسقط على نبات طال عطشه !

لقد كانت تجربة سيئة للغاية ، حيث نظموا لنا امتحانات من غير أن تسبقها فترة كافية يتم خلالها تجديد ما لدينا من معلومات ،وتقديم معلومات لمن لم يسبق لهم الإعداد فى كليات التربية ، فماذا كانت النتيجة ؟ الالتحاق بطابور " الغشاشين " ، وهكذا ، اكتملت المنظومة ، فالحكومة تغشنا وتقول أنها تزيد مرتبنا مائة فى المائة ،وتلاميذنا يغشون ،ونحن أيضا نغش ،ولا حول ولا قوة إلا بالله .

يكفى أن أقول لك يا سيدى أن ما أتسلمه من الوزارة لا يكفينى ثمنا للدروس الخصوصية لأولادى الثلاثة ! نعم يا سيدى ، فالناس الذين يشكون ويدعون أن المدرسين يمصون دم قلبهم فى الدروس الخصوصية ، ينسون أن هؤلاء المدرسين هم أنفسهم آباء وأمهات ، تخصصوا فى مادة واحدة ،وبالتالى فهم أيضا يدفعون دم قلبهم فى الدروس الخصوصية ،وهكذا ،ندور فى حلقة مفرغة جهنمية تحتاج إلى عبقرى كى يعرف كيف يوقف دورانها المخيف !

وحتى أستطيع أن أوفر لأولادى لقمة عيش وملبسا ومأوى وعلاج ، كان طبيعيا أن أبحث عن مصدر لزيادة دخلى ، بأن أعطى أنا أيضا دروسا لأبناء الآخرين ، على الرغم من أن مادة التاريخ لم يكن معروفا عنها أنها جاذبة للدروس ، لكن ، حمدا لله ، لم يعد هناك فرق بين التاريخ واللغات والعلوم والرياضيات ،والدور قادم بالنسبة لمادة الرسم لتدخل تحت عباءة الدروس الخصوصية !

قد تسارع إلى القول بأننا السبب ، وأننا لو كنا نقوم بواجبنا فى التعليم فى المدرسة على سنة الله ورسوله كما يقولون ، لما أصيبت مصر بهذا الوباء ، لكن ، يا سيدى هذا تفسير غير كامل للمشكلة ، فهناك أسباب متعددة ، تحتاج إلى فريق كبير من العلماء والباحثين لدراسة كل جوانب القضية ،وأرجو ألا تكرر هذه العبارة المهينة التى أطلقها وزير سابق ، حيث وصفنا بأننا نشكل " مافيا الدروس الخصوصية " ، إذ لو كانت لنا حرية التعبير حقا لرددنا عليه بأن هناك فى الوزارة من أول الوزير إلى مستويات أخرى بعده يكسبون الألوف خارج المرتب " وكله بالقانون " ،ولو كنا " مافيا " فلابد لنا من زعيم ، فمن يمكن أن يكون ؟!

لقد أسعدنا جدا تصريحك بأنك تريد أن تعود للمدرس كرامته ،ولكن ، هل فقدنا كرامتنا بسبب منعنا من ضرب التلاميذ ؟ كلا سيدى ، فالكرامة مجموعة عناصر :

- منها كرامة المدرس باعتباره مواطنا يحظى بممارسة حقوق المواطنة فى حرية التعبير والمحاسبة وقضاء المصالح ، فهل هذا متوافر ؟

- ومنها " الدخل " ، فهل خمسمائة جنيه لمعلم تخرج منذ خمسة عشر سنة من الجامعة يمكن أن تحفظ له كرامته ؟

- وهل سكوت النقابة عن كثير مما يلحق بالمهنة يحفظ لنا كرامتنا ؟

- وهل عدم وجود أى وقت بسبب اللهث وراء لقمة العيش ، لمتابعة الجديد فى المهنة يساعدنا على الاحتفاظ بالكرامة أمام الآخرين ؟

ويطول بنا المقام لو حاولنا إحصاء مكونات الكرامة الحقيقية ، وها هى جريدة الأهرام تنشر فى صفحة الحوادث يوم الخميس 25 فبراير 2010 تحت عنوان ( علقة ساحنة لمدرس ...) حيث تضمن الخبر أن ولى أمر ، صاحب مصنع بويات ، ذهب إلى المدرسة ليدفع المصروفات لابنته ، فطلب منه المدرس إبراز شخصيته ،وهو أمر قانونى وطبيعى ، فإذا بولى الأمر يتعدى على المدرس بالضرب !

هذا هو المعلم الذى كاد أن يكون رسولا ..! هذا حال المعلم الذى كنا نسمع من آبائنا أنهم لو كانوا يلعبون كرة " شراب " ولمحوا مدرسا قادما يختفوا ، أو على الأقل يتوقفوا تماما حتى يمر المدرس ، حيث كان بالنسبة لتلاميذه ربما أقوى مكانة من الوالد !

وإذا كان خبر الأهرام نفسه قد تضمن حادثة أخرى ، ألا وهى اعتداء مُدرسة بمدرسة إعدادية بشبين القناطر على تلميذ برجل كرسى أصابته بكدمات فى أنحاء جسده ، فإن هذا يعنى أن المسألة لم تعد خاصة بالمدرس وحده واتهام البعض له بممارسة العنف مع التلاميذ ،وإنما هى ،مرة أخرى ، معالى الوزير ، " مكانة المعلم " ،والتى هى ، كما أشرت من قبل لها عناصرها المختلفة .

ثم ، ألا تحمل لنا الأخبار بين حين وآخر ، بعض نواب ما يسمى بمجلس الشعب يتبادلون الشتائم بالأب والأم ، آخرها ما حدث بين " أحمد شوبير " ،وأحد نواب الإخوان المسلمين ، أو من تسموهم بالمحظورة ،وفى مرات أخرى ارتفعت " الجزم " لتهوى على هذا أو ذاك ؟

كلنا إذن ضحية العنف ،وعندك المركز القومى للبحوث التربوية ، اطلب منه أن يدرس هذه الظاهرة ، على الرغم من أن كثيرين درسوها بالفعل ، لتتأكد أننا لسنا وحدنا ، حتى يحملنا الناس مسئولية استخدام الضرب .. وأهمس فى أذنك معالى الوزير : أليست الحكومة نفسها هى النموذج الأعلى لكل المصريين فى استخدام العنف ؟ لا أريد أن أُفَصّل فى هذا ، فأنت سيد العارفين ،وإن كنت لا أتوقع أن تعترف بذلك !

وبعد ،معالى الوزير ، ما زال هناك ما يمكن أكتبه لك ، لكن ، ماذا أفعل ؟ فقد حان موعدان مهمان ، أولهما موعد درس لابنتى مفروض أن أوصلها إلى أحد مراكز الدروس الخصوصية ، والموعد الثانى ، هو ذهابى أنا إلى أحد هذه المراكز كى أعطى درسا خصوصيا !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اذا كان لديك أي تعليق أو ملاحظات حول هذا الموضوع يرجى كتابته هنا ، مع الشكر