الاثنين، 27 سبتمبر 2010

التعليم الذى بات مضحكاً

بقلم : د. بليغ حمدي ( اكاديمي مصري ) نقلاً عن صحيفة اليوم السابع


الشعب المصرى الفصيح هو الشعب الوحيد القادر على الحديث فى أمرين بالغى الصعوبة؛ أعنى التعليم وكرة القدم، وكلا الأمران يعانيان من ظواهر مرضية تحتاج إلى جراح عالمى كالدكتور مجدى يعقوب، ويمكننى أن أختزل السطور المقبلة فى ملحوظتين سريعتين، الأولى مستوى خريجى المدارس المصرية، والثانية مستوى أداء اللاعب المصرى الذى أصبح مشغولاً بقضايا لا تتعلق بالمستطيل الأخضر، كالمعلق والناقد والمشجعين والمشجعات والهتيفة (أى هواة الصراخ والهوس التشجيعى دونما وعى) والألتراس والبنات الجميلات اللاتى يذهبن لمشاهدة مباريات كرة القدم على طريقة اللون البينكى لا يناسب شفتى، والحمد لله أننى مازلت منذ ثلاثين عاماً أشجع نادى الزمالك لذا فلا أغضب حينما يخسر مباراة لأننى لا أطمع فى أى بطولة تأتى من أقدام لاعبيه.

وها قد بدأ العام الدراسى الجديد منذ أسبوعين، وهو لا يحمل جديداً لمريديه سوى ظاهرتين أساسيتين، الأولى تأخر استلام بعض المدارس لبعض الكتب المدرسية المكرورة والرتيبة بعض الوقت وبعض الصفحات. والثانية تتمثل فى أزمة وزارة التربية والتعليم، مع أصحاب دور نشر الكتب الخارجية، أى خارج وزارة التربية والتعليم نفسها.

وأما بالنسبة للكتاب المدرسى، فأنا وغيرى كثيرون من المتخصصين فى التربية والمناهج والتدريس فى شتى بقاع الأرض، ما زلنا فى عجب من إصرار وزارة التربية والتعليم وأولياء الأمور والتلاميذ والمدرسين أيضاً فى قصر المعرفة على كتاب محدد يمتحن فيه الطالب آخر العام، وتصر الوزارة ومؤسساتها التعليمية على تغييبنا بأنها تمارس أنشطة معرفية خارج حدود وتخوم ورسوم الكتاب المدرسى صغير الحجم قليل الفائدة.

إن فكرة الكتاب المدرسى ذى الصفحات المحدودة والمعلومات المكرورة منذ نصف قرن تقريباً باتت عقيمة لا يأخذ بها سوى بعض البلدان العربية التى منها مصر المحروسة، وكذلك معظم الدول والبلدان الأفريقية التى لا تعرف من التعليم غير هيئة وشكل الفصل ذى الجدران الخشبية والسبورة شبه السوداء، والمدرسة غير ذات الأسوار والمعلم الذى يذهب إلى مدرسته مكبلاً بالقيود الإدارية والتدريبات الفنية العقيمة وتمرد وشغب التلاميذ وأولياء أمورهم الذين أصبحوا يتدخلون فى التعليم وكأنهم صانعو قرار المعرفة والتعلم.

ليتنا نفكر قليلاً فى ماهية وفكرة الكتاب المدرسى الذى يحمل معلومات وأرقاماً وأفكاراً ليست جديرة بالاستخدام والممارسة والتطبيق، فمثلاً لو التقطنا بعضاً من كتب اللغة العربية بالمراحل التعليمية المختلفة، وقمنا بمحاولة تحليل محتواها الذى من المفروض أن يكون هذا المحتوى لغوياً وقائماً على المهارات اللغوية فى المقام الأول والأخير، فماذا نجد؟ سنكتشف أن الكتاب لا علاقة له باللغة، بل هو كتاب فى غالب الأمر يعالج مواداً أخرى كالجغرافيا والتاريخ والسيرة الذاتية والعلوم وبعضاً من قضايا المواطنة وحقوق الإنسان، أما اللغة ذاتها فلا شىء يذكر.

وهنا يتقمص معلم اللغة العربية أدواراً أخرى غير أدواره اللغوية المعروفة، حتى يصير شريداً لا يفطن أهو يعلم ويكسب طلابه خبرات لغوية ومهارات قرائية وكتابية وتحدثية أم صار معلماً للتاريخ والجغرافيا والعلوم، إنى أتمنى أن يأتى صباح جميل على مصر يعلن فيه الوزير المحترم الدكتور أحمد زكى بدر إلغاء الكتاب المدرسى فى صورته الروتينية الذى صار عبئاً على الطالب، وعبئاً على ولى الأمر الذى يهرع لشراء الكتب الخارجية باهظة الثمن، وأخذ يبحث عنها كالمخدرات التى تسكن أوجاع ابنه وبنته وتغيب عقليهما طيلة ثمانية أشهر هى مدة الدراسة الرسمية.

وإذا فكرنا قليلاً فى إلغاء الكتاب المدرسى، فإن هناك نتائج إيجابية بالغة الأهمية، منها أن الطالب سيصير متعلماً وليس تلميذاً قابعاً فى الفصل بجوار زملائه، بل سيقفز باحثاً عن معلومة تم تقديمها داخل الفصل، وسيفتش عن شاعر استمع إلى بعض من أبياته من معلمه اللغوى، أى الذى يقدم له لغة لا معرفة مجردة. كما أن الطالب الذى سيصبح متعلماً نشطاً سيرى بنفسه أن هناك مصادر أخرى للمعرفة ولاكتساب المهارات اللغوية كالإنترنت، والمكتبة، والندوات والصالونات الأدبية وجماعات اللغة بالنوادى.

وبدلاً من أن تحارب وزارة التربية والتعليم صناع الكتب الخارجية وتجارها، فإن إلغاء الكتاب العقيم سينهى فجأة وبدون جلسات قانونية بالمحاكم قمع وسطوة تجار الأحلام وأصحاب المصالح الذين يلهثون وراء المال والتواجد متجاهلين مستقبل هذه الأمة المتمثل فى أبنائها الأبرار بل المساكين أيضاً.

فالطالب بمجرد أن يلتقط كتاب الوزارة ذا الأنشطة الباهتة الضعيفة والتنسيق التكرارى المحفوظ يهرول إلى أقرب مكتبة لبيع وتداول الكتب الخارجية، فيلتقط أياً منها المهم أنه يهرب من صورة وشكل كتاب الوزارة المدرسى الذى يذكره دوماً بنصائح أبيه وأمه وجدته المسنة. وهذا الكتاب الخارجى هو بمثابة مسكن موضعى سرعان ما يذهب مفعوله عقب الانتهاء من الامتحان، فهو مجرد تدريبات وأسئلة تدور فى فلك الكتاب المدرسى الرسمى نفسه الخالى بالضرورة من اللغة وتنمية مهاراتها المتنوعة.

ومن المؤسف حقاً فى تاريخ هذه الأمة العظيمة أن يتفرغ بعض السياسيين لمناقشة أزمة وزارة التربية والتعليم وليتها التفكير أيضاً، مع أصحاب دور نشر الكتب الخارجية، وكأنهم يتدافعون دفعاً لتقليص المعرفة فى كتاب ضيق الصفحات والسطور والصور ذات الألوان المحددة، والتى يتفاخر واضعوها بتحديد ألوانها فى نهاية كل كتاب، فالسياسيون فى مصر من دورهم أن يفكروا جلياً ماذا لو أصبحت المدارس خالية من كتاب مدرسى تقليدى يجرد المعرفة، ويقنن المهارات اللغوية التى ستنقرض قريباً، بالتأكيد ستكون فرصة عظيمة كى يبحث المعلم عن معرفة غير تقليدية، وسيفكر الطالب فى آليات جديدة لتقديم أعماله المدرسية بدلاً من أن يصنعها أبوه الموظف الذى لا يقرأ الصحف اليومية.

إن التعليم استثمار، وقضية أمن قومى تشبه الجدار الفولاذى الذى تشيده مصر عند حدودها، والتعليم كما عرفت وعلمت وتلقيت وألقيت وعلمت ودرست هو عملية مستمرة مستدامة، لا ترتبط بشخص أو مسئول أو كتاب، بل تتعانق مع سياسات واضحة المعالم، ورؤى استشرافية تهدف إلى الإصلاح والنهوض، وكم أتمنى أن أرى فى عهد الدكتور أحمد زكى بدر هذا العام طفلاً يتحدث العربية بطلاقة، وآخر يقص لى قصة عن أهمية التسامح الدينى، وثالثاً يكتب مقالاً عن التيارات السياسية فى مصر، ورابعاً يعد صحيفة مدرسية تعلق على جدران الفصل لا يخططها والده.

• أكاديمى مصرى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اذا كان لديك أي تعليق أو ملاحظات حول هذا الموضوع يرجى كتابته هنا ، مع الشكر