الأحد، 28 نوفمبر 2010

من قصص السيرة : دعوة الى الأمل

ايها الاخوة الاعزاء
مَن عرف الدعوة عرف المحنة والمشقة والتعثر.
ومن نهج طريق الرسالات، أيقن أن الطريق طويل وصعب وشاق.
ومن أراد أن يرضي الله بهداية البشر، تحمل أذاهم.
إنها طبيعة الرسالات والدعوات، والقانون الذي سرى ويسري على الجميع، لا يستثني منه الله أحدًا، حتى أقرب المقربين وأصفى الأصفياء وأحب الأحبة، أنبيائه ورسله، وأحبهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد عانى الرسول الكريم ما لم يعانِ أحد، وتحمَّل ما لم يتحمل أحد، وهو يحمل على أكتافه عبء أعظم رسالة إلى البشر جميعًا.

قصة الرسالة تحكي معها آلاف المحن والعثرات والمشكلات والمؤامرات والنوازل والمصائب، كما تحكي معها كيف واجه الرسول وأصحابه الشدائد وتعاملوا معها بإيمان صلب، وذكاء شديد، وبساطة مذهلة، وفكر ناضج، مكَّنهم من أن يحققوا الحلم الذي عاشوا وضحَّوا من أجله، في مشهدٍ أذهل الجزيرة العربية كلها، ولا يزال يُذهل كل مَن يقرأ التاريخ حتى الآن.

ستظل الدعوة مرتبطة بالمحنة لن تنفك عنها لعدة أسباب:
الأول: أنها تكشف معادن الرجال وصلابة فكرتهم وقوة إيمانهم، ولا يمكن أن تكتشف صاحب دعوة إلا إذا اختبر في شيء أحبَّه، وعليه ساعتها أن يفاضل بين ما يؤمن به وما يتعرض له.
بسم الله الرحمن الرحيم: ?الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)? (العنكبوت).
الثاني: أن المحنة تعيد دراسة الأفكار وصياغتها من جديد، فتعطي خبرات أكثر للداعية وللدعوة، إلا أن خطورة المحنة ليس في شدِّتها ولا أثرها المادي المباشر، إنما خطرها الفعَّال والخطير في استقبال الدعاة لها، وتأثيرها النفسي عليهم، وقدرتها على تحريك أفكارهم في اتجاهات سلبية تشدهم إلى الوراء، وتجنح بهم إلى الكسل والركون، وما تقذفه في نفوسهم من إحباطٍ ويأس.

الإحباط أخطر سلاح:
وربما كان انتشار الفساد في المجتمع، وتدهور مستوى الأخلاق، وازدياد معاناة الناس، وهجوم الأفكار المنحلة على مجتمعاتنا، دافعًا لبعض الناس إلى أن يتخيلوا أن المعركة مع الباطل قد حُسمَت، وأن الأمل في التغيير قد تراجع.
إنه الإحباط الذي إن تسلل إلى المجتمع، يعني نهاية المعركة بجدارة، ثم نهاية كل شيء بعده.
أتذكر هناك وأرجوكم أن تتذكروا معي، الرسول القائد المدرك لطبائع البشر، الذي يصرُّ أن يرى الناس شعاع النور وسط ظلام الليل الدامس القابع فوق الصدور.
أتذكر هنا وأرجوكم أن تتذكروا معي، أحد أيام غزوة الأحزاب الخالدة..
كان الموقف عصيبًا صعبًا خطيرًا محبطًا منذرًا بالخطورة كلِّ الخطورة..
يهاجم جيش قريش وغطفان وبقية القبائل "المدينة" من خارجها، بينما يهاجم يهود بنو قريظة من الداخل، ومن وراء صفوف المسلمين، ليقف المسلمون محاصرين بين اليهود من الخلف، وجيش قوامه عشرة آلاف مقاتل من الأمام، جاءوا وكلهم عزم على كتابة كلمة النهاية..
كان الموقف على المسلمين أقسى من أن يتوقعه أحد.. وكان وصف القرآن له بليغاً دقيقًا: ?إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)? (الأحزاب).
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم رائعًا في تصدير الأمل للمسلمين.
كان الرسول قد وزَّع المسلمين على مجموعات لحفر الخندق، كل مجموعة تقوم بحفر رقعة معينة، وفي الرقعة التي كان مسئولاً عنها سلمان الفارسي ومجموعة من أصحابه، اعترضتهم صخرة صلبة شديدة الصلابة، لم ينجحوا جميعًا في كسرها، حتى سلمان رغم عافيته وقوة بنيانه، فلم يجد سلمان بدًّا من أن يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في تغيير مسار الحفر لتفادي تلك الصخرة..
وقبل أن يتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم القرار، عاد مع سلمان إلى الموقع لدراسة المشكلة على الطبيعة، وعندما رأى الصخرة، وجد أن الأمر لا يخلو من محاولة أخيرة، فطلب معولاً وطلب ممن معه من الصحابة أن يبتعدوا قليلاً، كي لا تصيبهم الشظايا الناتجة عن الاصطدام.
وسمى الرسول بالله.. ورفع الرسول يديه الشريفتين، وهو يمسك المعول بكل عزم وقوة، وهوى به على الصخرة بضربة قوية، أحدثت بها فلقًا عميقًا، وخرجت على إثرها شرارة عظيمة أضاءت جوانب المكان!.
نعم.. هكذا وصف سلمان بعد أن تملكته الدهشة مما رأى، والتي ما كاد أن يفيق منها حتى تملكته مرة أخرى، مما سمعه من رسول الله وهو يهتف قائلاً: "الله أكبر.. أعطيتُ مفاتيح فارس، ولقد أضاء لي منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وإن أمتي ظاهرة عليها".
نبوءة نصر.. في وقت تنبأ معظم المسلمين لأنفسهم الهزيمة..
ومع ضربة الرسول صلى الله عليه وسلم الثانية، كان سلمان على موعد مع الحلقة الأخيرة من مسلسل الدهشة..
"الله أكبر.. أعطيت مفاتيح الروم، ولقد أضاء لي منها قصورها الحمراء، وإن أمتي ظاهرة عليها"، هكذا هتف رسول الله.. وهكذا سمع سلمان والصحابة الذين ارتفعت روحهم المعنوية فجأة، وأيقنوا أن النصر آتٍ لا محالة..
واختتم المشهد بتهليل وتكبير من المسلمين، رج الأرض من شدته، بعد أن صاحوا جميعًا في إيمان عظيم: "هذا ما وعدنا رسول الله".
لقد انتقل الأمل والحماس إلى المسلمين، لأن الرسول كان صادقًا في تسريب الأمل إليهم، رغم هول الموقف وصعوبته.
إن الإحباط يشلُّ التفكير ويحبط الهمة، ويجعل النفس تضع العوائق أمام نفسها دون مبررات أحيانًا، وتضخم العوائق الموجودة أحيانًا أخرى.
إن الإحباط يجعلك ترى ما لديك من إمكانات ضعيفًا مهما كان قويًّا، ويجعلك ترى إمكانات أعدائك عظيمة وإن كانت ضعيفة.
فلسفة الإسلام قائمة على الأمل:
من أجل هذا قامت فلسفة الإسلام على تصدير الأمل ومحاربة اليأس بشتى السبل، حتى عدَّ اليأس ناقضًا للإيمان.
قال تعالى: ?إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ? (يوسف: من الآية 87).
كما أنه ربط اليأس بالضلال، فقال تعالى: ?وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ? (الحجر: من الآية 56).
وفتح الإسلام أبواب الأمل على مصاريعها أمام العاصين مهما بلغت معصيتهم، ومهما تعاظمت ذنوبهم، في خطاب رقيق من الله لهم: ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ? (الزمر: من الآية 53).
كما جعل الحساب بخواتيم الأعمال، حتى يجعل الأمل في صدور العبد حتى آخر لحظة في حياته.
في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة" رواه البخاري ومسلم.
وأقام العقيدة على الأمل في الجنة، فجعلت العبد يتحمَّل مشاق الحياة وآلامها وتقلباتها، في انتظار الجائز الكبرى التي ينتظرها يوم لقاء الله، فيظل يعمل ويعمل منتظرًا ثواب الله في الآخرة، حتى وإن فشل في الدنيا.
قال تعالى: ?وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)? (الأعلى).
إنه الإسلام الذي يجعل المسلم يفقد ماله ووقته ونفسه، وهو راضٍ، متعلقًا بالأمل في الجنة وفي الآخرة.
إنه الإسلام الذي يجعل الناس تعيش بالأمل، فالأمل هو الحياة والحلم، وفقدان الأمل، يعني فقدان الحياة وموت الحلم.
.
لقد وضع الله مهمة الدعوة في أرقى المهام على وجه الأرض، فهي مهمة الرسل والأنبياء، وهي سفينة نوح التي ينتظرها الناس عندما تعصف الحياة بهم، وهي السكينة والأمان عندما يهاجمهم القلق ويعتريهم ضعف الإيمان؛ لتعيدهم إلى ربهم، وتبث فيهم الحياة والأمل من جديد.
وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وعلي آلة وصحبة وسلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اذا كان لديك أي تعليق أو ملاحظات حول هذا الموضوع يرجى كتابته هنا ، مع الشكر