الأحد، 28 نوفمبر 2010

من قصص السيرة : قصة غلام

هذه قصة من قصص السنة حدثت في التاريخ البعيد، قصها علينا رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ فأصبحت بذلك تراثًا لنا نحكيه لأبنائنا مما يمكن أن نسميه التاريخ الإسلامي.
إنها قصة غلام الأخدود.. وقد أوردها الإمام مسلم من حديث صهيب الرومي، فأوصيك أخي الحبيب أن ترجع إلى نص الحديث في كتاب من كتب السنة، كرياض الصالحين مثلا
1) "كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلامًا أعلمه السحر فبعث إليه غلامًا يعلمه".
وهكذا يحرص أهل الباطل على توارث باطلهم وهو في قصتنا هذه السحر.. يكبر ساحر الملك فيبحث عن غلام شاب يعلِّمه قيمه ومبادئه؛ لأنه هو المستقبل.. هو الامتداد.. وفهم هذا الملك أيضًا فاختار غلامًا وأرسله إلى الساحر؛ ليرث منه ميراث الباطل.. ولربما كان السحر هو رمز لكل ما تطمس به هوية المسلمين ثقافة وإعلامًا وتعليمًا.
فإذا كان هذا هو دأب أهل الفساد والإفساد في الأرض، فكيف يقعد أهل الحق عن حقهم؟ كيف لا يورِّثون قيمهم وأخلاقهم لجيلهم الواعد، الذي عقدنا عليه آمال التغيير والإصلاح.
2) "وكان في طريقه- إذا سلك- راهبًا، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا أتي الساحر مر بالراهب، وقعد إليه فاذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر".
إنه موضع من مواضع جواز الكذب فإن سألتني أي موضع هذا؟ فسأرد قائلاً: قالت أم كلثوم رضي الله عنها في رواية للإمام مسلم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس الكذَّاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا"، ولم أسمعه يرخِّص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث، تعني: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها".
فكأنه يجوز الكذب أو المداراة أو التورية لمصلحة الدعوة عندما يطغى الباطل، وعندما تكمَّم الأفواه وعندما يحارب الدين، ويمنع الناس من تعلم أحكامه وأداء شعائره.. عندها أدِّ ما عليك ولو اضطررت إلى المداراة والكذب أحيانًا واعلم أن "الحرب خدعة"، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح.
3) فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرًا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتي يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب: أي بني، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستُبتلى فإن ابتليت فلا تدل عليَّ، وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء.
ولاحظ أن الداعية الحق ليس فقط من يلجأ إليه الناس في تعلُّم دينهم، ولكنه أيضًا من يمدُّ يديه إلى الناس بطعام أو بدواء أو بقضاء حوائجهم، ولعل الدابة التي قطعت طريق الناس هي رمز لكل مشكلة تنغِّص على الناس حياتهم في أي مجال، والغلام الذي قتلها إنما قتلها بسم الله وبالاستعانة به، فالغلام استخدم الإسلام إذًا حلاًّ لمشكلة من مشكلات مجتمعه، وهذا ما يرفضه أعداء الإسلام في كل زمان ومكان. إنهم يرفضون أن يتقدم الإسلام بحلول لمشكلاتهم، ويفضلون حلول الغرب المستوردة من ثقافات غيرنا وشرائعهم، إن كانت لهم شرائع!.
ولاحظ أخي الحبيب أن الراهب أقرَّ للغلام بأنه أفضل منه برغم أن الراهب هو المعلم والمرجع والموجّه، ولكن تحرك الغلام بدعوته بين الناس وحله لمشكلاتهم باسم الله جعله في الصدارة.
4) ابني الحبيب..
تحتاج دومًا إلى الراهب.. لا بد لك من راهب ترجع إليه وتستشعر الأمن والأمان بين يديه.. تستمد منه العلم والرأي والطمأنينة.. واسمع إلى قول ابن قيم الجوزية، وهو يحكي عن شيخه ومعلمه وراهبه ابن تيمية: "وكنا إذا ضاقت بنا الدنيا وساءت منا الظنون هرعنا إليه، فما هو إلا أن نراه ونجلس إليه حتى يتبدَّل همُّنا فرجًا وضيقنا سعة وانشراحًا".
إنه دور علماء الصحوة الإسلامية الذين أسمِّيهم "رهبان الدعوة"، أنادي عليهم: تقدَّموا وخذوا أماكنكم في مقدمة الصفوف، وخذوا بأيدي شباب الدعوة ورجالها إلى برِّ الأمان والنجاة، فلن يتقدم الغلام بغير راهب.
5) وإنك ستُبتلى.. فإن ابتُليت فلا تدل عليَّ.. تُرى من أين علم الراهب أن الغلام سيُبتلى؟ إنه طريق أصحاب الدعوات، وقد سلكه الغلام فأصبحت النتيجة الحتمية "وإنك ستُبتلى".
ألم يقلها بحيرة الراهب لرسولك صلى الله عليه وسلم يوم التقاه مع خديجة رضي الله عنها في أيام الدعوة الأولى لما قال له: "ليتني فيها جذعًا إذ يخرجك قومك"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوَمخرجيَّ هم؟!"، فقال الراهب: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عُودِيَ".
إنها سنة من السنن الإلهية لا تتخلَّف أبدًا: ما دعا إلى الله داعٍ بصدق وإخلاص إلا ابتُليَ وأُوذِيَ؛ حتى يعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، وليميز الله الخبيث من الطيب.
6) الطغاة أسلوبهم واحد لا يتغير على مر العصور.. لمَّا اكتشف الملك الظالم أمر الغلام حاول أن يثنيه عن مقولته: "إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله تعالى" وهي محاولة من الطاغية لتفريغ دعوة الغلام من بُعدها الإسلامي وجعْلها بدون مضمون عقائدي.. ولمَّا لم يفلح في ذلك كشف عن وجهه القبيح، "فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقَّاه ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه.
وهكذا يكشف الطاغوت عن وجهه الحقيقي وتسقط الأقنعة المزيفة.. والملك في قصتنا هذه.. "قصة الغلام" هو رمز للظلم والطغيان في كل العصور؛ لذلك لا يهم يا بني أن تعرف اسمه ولا زمانه، فليس هذا مقصود النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقص علينا القصة.
إن الحرية والديمقراطية التي يزعمونها تتهاوى عند أول مواجهة مع صاحب الدعوة الصادقة.. فكن على وعي وإدراك.
7) ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى.. وهنا لم يضع الملك المنشار على رأس الغلام كما فعل مع الراهب وكما فعل مع جليسه.. فلماذا؟ الإجابة هي أن الغلام أصبح الآن شخصية عامة.. وذاع صيته.. وأحبه الناس.. لقد تترس الغلام بالمجتمع وأصبح محتميًا به فلا بد للطاغية إذًا من التخلص المبرر من الغلام.. لا بد من طريقة قتل لا يستفز الظلمة بها الشعوب.. من أجل ذلك أرسل الملك الغلام مع الجنود للتخلص المستتر من الغلام.. مرة في سفينة في البحر، ومرة من فوق جبل ليبدو الأمر وكأنه قضاء وقدر.. وفي كل مرة يعلِّمنا الغلام درسًا في التوكل، وهو يقول "اللهم اكفنيهم بما شئت" وفي كل مرة يرجع الغلام سالمًا بحفظ الله له.
ويبدأ الغلام في خطته لأسلمة أمته التي أصبحت شغله الشاغل؛ ومن أجل ذلك سيدفع ثمنًا باهظًا غاليًا.. سيدفع حياته ثمنًا لإنقاذ قومه من جهالات الكفر في الدنيا ومن عذاب النار في الآخرة.. وسيضحِّي الغلام بأحلام الشباب في مسكن فسيح وزوجة جميلة وسيارة فارهة مما هو حق مشروع لكل شاب؛ لينصر دعوته وينقذ أمته، فقال بعزة المسلم متحديًا الملك الظالم: "إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهمًا من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: بسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني."
وفي ذلة فعل الطاغية ما أمره به الغلام وقال بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فمات الغلام شهيدًا، فقال الناس: آمنا برب الغلام.. آمنا برب الغلام.. فيا لها من تضحية ويا لها من بطولة! لقد نجح الغلام.. وأسلمت القرية عن بُكرة أبيها.
هكذا يكون البذل.. وهكذا يكون الفداء؛ لقد ضحَّى الغلام بحياته.. وما قيمة الحياة ما دام الثمن إحياء أمة من الموات وإخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، والعجيب أن هذا التحول الكامل للأمة قام به غلام! فما أروعه من غلام! وما أعظمه من عمل!.
9) والظَلَمة عادةً لا يستسلمون إلا بعد التنكيل بأقوامهم.. وهم لا يستحيون.. حتى لو قتلوا شعوبهم فلم يغادروا منهم أحدًا، واسمع ما حدث في قصتنا هذه: "فأمر بالأخدود بأفواه السكك فَخُدَّت وأضرم فيها النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها؛ ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها؛ فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: يا أماه اصبري فإنك على الحق".
** وهكذا آمن الناس بالدعوة الصادقة، وتعلَّموا من الغلام درسًا في الشجاعة والتضحية، وقذفوا بأنفسهم في نار الدنيا.. فإذا هم في جنات النعيم.. ونعم أجر العاملين..وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اذا كان لديك أي تعليق أو ملاحظات حول هذا الموضوع يرجى كتابته هنا ، مع الشكر